التجويع كسلاح إجرامي للإبادة الجماعية.. وانعقاد «المركزي»
الخطر الداهم على القضية الفلسطينية برمتها، وليس فقط نظامها السياسي، يتمثل بالإضافة لحالة الانقسام المدمرة، بالمخططات الإسرائيلية التي تسعي لتفكيك النظام السياسي

أصدرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) تقارير حديثة توثق تفاقم الأزمة الإنسانية في قطاع غزة نتيجة الحصار الكامل المفروض منذ الثاني من مارس 2025، مما أدى إلى نقص حاد في المواد الغذائية والطبية، وتأثير كارثي على الأطفال والنساء الحوامل والمرضعات. فأكثر من مليون طفل في غزة محرومون من المساعدات المنقذة للحياة منذ أكثر من شهر ونصف، بسبب الحصار المستمر الذي يمنع دخول الغذاء والماء النظيف والإمدادات الطبية. وقد أدى الحصار إلى توقف تام في سلسلة الإمدادات الغذائية، حيث أُغلقت المخابز بسبب نفاذ الطحين والوقود، مما يهدد بحدوث مجاعة واسعة النطاق، كما أن أكثر من 60% من الأدوية الأساسية نفذت، و15 فقط من أصل 36 مستشفى تعمل جزئيًا، مما يترك المرضى دون رعاية طبية كافية.
وتشير تقارير سابقة صادرة عن منظمات دولية مثل منظمة الصحة العالمية وبرنامج الأغذية العالمي وكذلك اليونيسف إلى أن المجاعة والأزمة الإنسانية في قطاع غزة لها تأثير مدمر على صحة وحياة الرضع والأطفال والحوامل، بالإضافة إلى صحة السكان بشكل عام. حيث أكدت تلك التقارير أن نسبة 90% من الأطفال دون الخامسة تعاني من سوء التغذية الحاد، وأن واحدًا من كل ثلاثة أطفال يعانون من نقص التغذية، وفي شمال غزة، يُعاني طفل من بين كل ستة أطفال دون سن الثانية من سوء تغذية حاد، وهو ارتفاع غير مسبوق مقارنة بنسبة 0.8% قبل الحرب. وأن معظم العائلات بالكاد تحصل على وجبة واحدة يوميًّا، وغالبًا ما تكون غير كافية من الناحية الغذائية. كما تعاني الأمهات من نقص حاد في التغذية، مما يؤثر بصورة خطيرة على إرضاع أطفالهن. كما تزداد معدلات وفيات المواليد بسبب نقص الرعاية الطبية وليس فقط سوء التغذية، ناهيك عن مخاطر الولادات المبكرة ووفيات المواليد. فأكثر من 557,000 امرأة في قطاع غزة يعانين من انعدام الأمن الغذائي الحاد، حيث يتخلى العديد من الأمهات عن وجباتهن لإطعام أطفالهن، مما يؤدي إلى فقدان الوزن والدوار، وقد أفادت 76% من النساء الحوامل بأنهن يُعانين من فقر الدم، و99% منهن لا يستطعن الحصول على المكملات الغذائية اللازمة، مما يُعرض صحتهن وصحة أطفالهن للخطر. هذا بالإضافة إلى معاناة الحوامل من صعوبة الوصول إلى المستشفيات والمراكز الطبية التي تم تدمير معظمها، مما يزيد من مضاعفات الحمل والولادة.
كما أدى نقص، المياه النظيفة، وأحيانًا انعدامها، والازدحام الحاد في مراكز النزوح إلى انتشار أمراض خطيرة كالإسهال الحاد، خاصة بين الأطفال، والتهابات الجهاز التنفسي، والأمراض الجلدية، وتفشي التهاب الكبد الوبائي (A)الناجم عن تلوث المياه. وذلك كله في ظل انهيار النظام الصحي.
أكثر من 80% من سكان غزة يعتمدون على مطابخ خيرية تقدم وجبات بسيطة تفتقر إلى العناصر الغذائية الأساسية. وقد تم إغلاق بعض هذه المطابخ جراء الإغلاق التام للمعابر مع تجدد العدوان الهمجي على القطاع، في ظل سياسة معلنة ومعتمدة رسميًّا تستخدم التجويع كسلاح إجرامي في حرب الإبادة المتواصلة، وفي ظل تعالي أصوات في حكومة الاحتلال تدعو لقطع كل مصادر الحياة بصورة شاملة عن سكان القطاع.
هذه المعطيات التي توثقها المنظمات الدولية لم تحرك حتى اللحظة الجهات المعنية العربية منها والدولية لفرض خطوات عملية لوقف المخططات المعدة سلفًا والهادفة للإبادة الجماعية للسكان. فقرار المحكمة الجنائية حول احتمالية تَعَمُّد ارتكاب إبادة جماعية بات مؤكدًا بفعل السياسة الرسمية والمعلنة لاستخدام سلاح التجويع المرتبط كذلك بالتدمير الكلي للبنية الأساسية للخدمات، والإمعان غير المسبوق في استمرار إغلاق المعابر .
ولكن الأكثر غرابة، أنه في هذا الوقت، والذي يجري فيه التحذير من مؤسسات دولية ما زالت تعمل في القطاع من احتمال وقوع وفيات جماعية واسعة النطاق بفعل حرب التجويع، ينعقد المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية لأول مرة منذ اندلاع جرائم الإبادة قبل عام ونصف. والمحزن أن الموضوع الأساسي على جدول أعماله هو البند الأخير والمتعلق باستحداث منصب نائب لرئيس اللجنة التنفيذية. يجري ذلك ليس للحاجة الوطنية أو الدستورية في حال شغور موقع الرئيس. فبعد وفاة الرئيس أبو عمار توافقت حركة فتح، ومن ثم اللجنة التنفيذية على انتخاب رئيس جديد لها خلال اجتماع واحد، وقبل وصول جثمان الشهيد عرفات من باريس لمواراته الثرى مؤقتًا في رام الله. بينما حل «الإعلان الدستوري» الذي صدر مؤخرًا، ويكلف رئيس المجلس الوطني بتولي موقع رئاسة السلطة لمدة تسعين يومًا قابلة للتجديد مرة واحدة، يتم خلالها إجراء الانتخابات الرئاسية، مسألة شغور رئاسة السلطة. كان ذلك الإعلان بمثابة خطوة تعيد الجميع إلى أن الخيار الذي لا يجب الافتراق عنه هو صندوق الاقتراع، أي احترام إرادة الناس وحقهم الدستوري.
فالخطر الداهم على القضية الفلسطينية برمتها، وليس فقط نظامها السياسي، يتمثل بالإضافة لحالة الانقسام المدمرة، بالمخططات الإسرائيلية التي تسعي لتفكيك النظام السياسي، وفي أحسن الأحوال هندسته بما يخدم مخططاتها القادمة، وإن كان هناك من حرص عربي على قضية شعبنا بعدم تمكين إسرائيل من تفكيك النظام السياسي، فإن الرد الوحيد الذي يضمن ذلك هو تشجيعها للبدء بتوحيد مؤسسات الكيانية الوطنية الجامعة القادرة على المضي بالنضال الوطني لإنهاء الاحتلال وانتزاع الاستقلال وتجسيد دولة فلسطين كشرط لا يمكن تجاوزه لاستقرار المنطقة. الشروع في توحيد هذه المؤسسات يمكن أن يبدأ فورًا بالتوافق على تشكيل حكومة وفاق وطني غير فصائلية تتسلم ملف القطاع بكل أبعاده، بدءًا بالعمل على وقف حرب الإبادة كأولوية عليا يُجمع عليها شعبنا، مرورًا بالإغاثة والإيواء والإعمار، وتعزيز وتوحيد مؤسسات الشعب الفلسطيني كمكون جوهري من مكونات إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، بما في ذلك مؤسستها الأمنية والعقيدة التي تحكم عملها .
علينا أن ندرك أن السلطة الفلسطينية في مأزق وجودي غير مسبوق. فبالقدر الذي تتقلص شعبيتها لأسباب عميقة ومتعددة، ليس أولها إعادة تفصيلها على مقاس خيار فشل بصورة كاملة، ودمرته إسرائيل أكثر من مرة، فقد باتت السلطة أيضًا هدفًا للتفكيك وهندسة نظام الكانتونات والمحميات. كما أن ترك إسرائيل، لشديد الأسف، مستفردة بالقطاع وأهله ومقاومته، وضع حماس والمقاومة في مأزق خطير ليس على المقاومة بقدر ما هو على شعبنا وقضيته. والسؤال: ألا يدفع هذا المأزق الوجودي الجميع إلى مرحلة وفاق تقطع مع الماضي، وتؤسس لمرحلة جديدة من العمل وفق إرادة شعبنا دون غيره؟.. أليس الذهاب إلى خيار الوفاق الوطني الذي أجمعت عليه القوى في بكين، وتسانده الإرادة الشعبية هو من يضمن صون مؤسسات الكيانية الوطنية ؟ لماذا كل هذا العناد ولمصلحة من؟ هل ذلك يقدم ترياق الحياة لشعبنا في القطاع، أم أنه يرفع سكين الضم عن أعناق شعبنا وأرضه ومقدساته في القدس والأغوار وسائر أرجاء الضفة؟ الجواب مؤكدًا تجدونه على شفاه الضحايا الذين يصارعون الموت في غزة، وعلى ألسنه من يصارعون البقاء في أرجاء الضفة. فهل أنتم قادرون على سماعهم، ومستعدون للانصياع لإرادتهم؟!
تعليقات 0