حكايات أنوال مدينة أخميم.. صناعة النسيج اليدوي بين صمود التراث وتحديات العصر
تُعد مدينة أخميم، الواقعة في صعيد مصر، من أبرز معاقل التراث المصري الأصيل، حيث تشتهر بصناعة النسيج اليدوي التي تمتد جذورها إلى العصور الفرعونية.
وعبر التاريخ، كانت أنوال هذه المدينة تصنع الأكفان الملكية، وكسوة الكعبة المشرفة، وتلبي احتياجات القصور الملكية.
اليوم، وبرغم مرور الزمن وتغير الأحوال، ما زالت أخميم تحافظ على هذه الحرفة، متحدية تقلبات السوق وموجات العولمة الجارفة التي باتت تهدد العديد من الصناعات التراثية.
في شوارع أخميم وأزقتها الضيقة، يملأ صوت الأنوال القديمة الأجواء، يروي حكايات الماضي ويمزجها بتحديات الحاضر. هذه الأنوال ليست مجرد أدوات، بل رموز حية للإبداع والتاريخ.
والنساء هن قلب هذه الحرفة، يقمن بالغزل والتطريز والصباغة بأيدٍ خبيرة، ينسجن خيوطًا تتشابك لتحكي قصصًا تنبض بالهوية والخصوصية. المرأة الأخميمية ترى في هذه الصناعة أكثر من مجرد عمل، بل هوية وثقافة تتوارثها الأجيال بفخر واعتزاز.
ومع ذلك، تواجه صناعة النسيج اليدوي في أخميم تحديات كبيرة في ظل التغيرات الاقتصادية العالمية. منتجات النسيج المستوردة ذات التكلفة المنخفضة تُغرق الأسواق، مما يؤثر سلبًا على صغار الحرفيين ويهدد بإغلاق ورشهم.
يقول عبدالصبور هريدي، شيخ النساجين في المدينة: “التحديات التي نواجهها اليوم تتطلب منا الصمود والابتكار. لقد رأيت الأنوال تُغني منذ أن كنت طفلًا، ولن أدع هذه الحرفة تموت. إنها جزء من كياننا، من روحنا.”
بفضل الجهود المتواصلة من قبل الحكومة وبعض الجهات الخاصة، أُنشئت قرى حرفية مثل قرية حي الكوثر، التي أصبحت ملاذًا للحرفيين ومصدر دعم لهم. هذه القرية تأتي كخطوة جادة نحو الحفاظ على التراث وتطويره، وتوفير بيئة تتيح للحرفيين الإبداع والعمل بحرية.
وقد ساهم شيخ النساجين هريدي في تدريب الأجيال الشابة ونقل المهارات التي اكتسبها عبر عقود، وسافر إلى دول عديدة للترويج للمنسوجات الأخميمية، مشاركًا في معارض تراثية بارزة كان آخرها معرض التراث الذي حضره الرئيس عبد الفتاح السيسي.
يلفت خبراء التراث الثقافي إلى أن السياحة الثقافية يمكن أن تلعب دورًا جوهريًا في دعم هذه الصناعة، حيث يُقبل السياح على شراء المنتجات اليدوية التي تتميز بالجودة العالية والتصميمات الفريدة. يقول الأستاذ خالد، خبير في التراث الثقافي: “منتجات النسيج اليدوي في أخميم ليست مجرد أقمشة، بل أعمال فنية تحمل قصصًا وحكايات. السياح يعشقون هذه القطع لأنها تعكس روح المكان ومهارة صانعيها.”
وإلى جانب السياحة، يمكن للتجارة الإلكترونية أن تكون جسراً يصل هذا التراث إلى العالم. مع تزايد الاهتمام بالمنتجات الحرفية اليدوية عبر الإنترنت، يمكن لصناعة النسيج في أخميم أن تجد سوقًا أوسع يتخطى الحدود المحلية، مما يعزز من فرص تسويقها وتحقيق أرباح تساهم في استمرارها وتطورها.
ورغم كل التحديات التي تواجهها هذه الصناعة، يبقى الأمل حاضرًا، بفضل عزيمة النوالين في أخميم وإصرارهم على الحفاظ على تراث أجدادهم. عبدالصبور هريدي، الذي لم يتوقف نوله عن العمل منذ عقود، يجسد هذه الروح القوية.
يقول هريدي: “في كل قطعة نسيج نصنعها، نضع جزءًا من روحنا. نحن لا نصنع منتجات فقط، بل نصنع هوية. أخميم كانت دائمًا وستظل مانشستر ما قبل التاريخ، قلعة النسيج اليدوي التي تروي حكاية صمود شعب وعبقرية حضارة.”
بهذه الروح، تظل صناعة النسيج في أخميم رمزًا للصمود والإبداع، تعكس قصة عشق بين الإنسان والأرض، وبين الألوان والخيوط، لتبقى شاهدًا على تحدي الزمن وحكاية متجددة تتناقلها الأجيال، تلهم وتؤكد أن التراث هو نبض الأمة وروحها الحية.
تعليقات 0