تل الدير.. كنوز مدفونة تكشف أسرار دمياط الفرعونية والرومانية في أقصى شمال الدلتا
في قلب محافظة دمياط، وتحديدا على أعتاب مدينة دمياط الجديدة، في أقصى شمال الدلتا، يكمن كنز أثري يكشف عن طبقات تاريخية متعاقبة، ويمثل شاهدًا حيًا على عظمة الحضارة المصرية القديمة وتأثيرها على العالم.
“تل الدير“، هذا الموقع الذي بدأ يحكي لنا قصصًا لم تُروَ من قبل، هو اليوم أحد أبرز المواقع الأثرية في مصر، حيث يواصل علماء الآثار فك طلاسمه واكتشاف أسراره المخبأة تحت طبقات الأرض.
التاريخ يتحدث: “تل الدير” بوابة لعصور متعاقبة
يمثل “تل الدير” أحد أعمدة التاريخ المصري القديم في دمياط. يعود تاريخه إلى العصر المتأخر من الحضارة المصرية القديمة، وتحديدًا الأسرة الـ26، مرورًا بالعصور الرومانية والبيزنطية واليونانية.
بدأ التنقيب في الموقع عام 2007، ومنذ ذلك الحين، توالت الاكتشافات التي أكدت أهمية دمياط كمركز حضاري وتجاري.
أولى الاكتشافات الكبرى كانت التوابيت الحجرية الآدمية التي تعود للأسرة الـ26، والتي كانت تُستخدم في دفن الشخصيات البارزة. هذه التوابيت، ذات التفاصيل الدقيقة، تمثل دليلًا حيًا على مهارة المصريين القدماء في صناعة المنحوتات الجنائزية، ومن المقرر عرضها قريبًا في المتحف المصري الكبير.
تمائم الجنائز: رموز للحماية في الحياة الأخرى
من بين أبرز المكتشفات، كانت التمائم الجنائزية التي استخدمها المصريون القدماء كوسائل حماية للمتوفى خلال رحلته إلى الحياة الأخرى.
تم العثور على أشكال متنوعة من التمائم، مثل عين حورس، الجعران، مساند الرأس، والقلب، التي تعكس المعتقدات الراسخة لدى القدماء حول الحياة والموت.
تمثال “أوشابتي”: خطوة نحو تأريخ دمياط الفرعونية
في عام 2011، تم العثور على تمثال “أوشابتي”، الذي ينتمي لعصر الملك نيفر إبرع، ثالث ملوك الأسرة الـ26. كان لهذا الاكتشاف أهمية كبيرة، حيث مثّل الخطوة الأولى في توثيق دور دمياط في الحضارة المصرية القديمة، وسلط الضوء على أهمية “تل الدير” كنافذة لفهم تاريخ المنطقة.
العملات الذهبية: شاهد على التجارة في العصور القديمة
شهد عام 2019 اكتشافًا مهمًا آخر في الموقع، حيث عُثر على سبع عملات ذهبية تعود لعصور الأباطرة الرومان “فوكس”، “هرقل”، و”قسطنطين الأول”. تم تأريخ هذه العملات إلى العصر البيزنطي، مما يثبت دور دمياط كمركز تجاري يربط مصر بجنوب أوروبا.
وتعكس هذه الاكتشافات النشاط الاقتصادي المزدهر في دمياط خلال العصور القديمة وأهميتها الاستراتيجية.
مقابر الطوب اللبن والدفنات البشرية: إرث الأسرة الـ26
في يوليو الماضي، كشفت أعمال التنقيب عن 63 مقبرة مبنية من الطوب اللبن تعود للأسرة الـ26. احتوت هذه المقابر على دفنات بسيطة ورقائق ذهبية منحوتة بأشكال آلهة مصرية قديمة، مثل حورس وإيزيس، مما يعكس الجانب الديني والجنائزي في حياة القدماء المصريين.
دمياط عبر التاريخ: من “سما بحدت” إلى تل البلامون
تاريخيًا، كانت دمياط تعرف باسم “سما بحدت” في العصر الفرعوني، وكانت تُعد أهم ميناء يربط مصر بجنوب أوروبا. كانت عاصمة دمياط حينها “واسط محيت”، التي تقع في تل البلامون بمحافظة الدقهلية حاليًا. بفضل موقعها الاستراتيجي، لعبت دمياط دورًا محوريًا في التجارة عبر العصور، وهو ما تؤكده الاكتشافات الأثرية في “تل الدير”.
التراث الأثري في دمياط: ثروة لم تُكتشف بالكامل
تضم دمياط 14 موقعًا أثريًا موزعة على مراكز المحافظة، إلا أن “تل الدير” يظل الأبرز. من بين المواقع الأخرى، يبرز “تل آثار الدهب”، الواقع في بحيرة المنزلة، والذي يتطلب أيضًا المزيد من الحفريات لاستكشاف أسراره.
وتسعى وزارة السياحة والآثار لإدراج عدد من هذه المواقع ضمن خطط التنقيب المستقبلية، مما يفتح آفاقًا جديدة لفهم تاريخ دمياط.
التأثير الاقتصادي: نحو متحف أثري في دمياط
إن إنشاء متحف أثري في دمياط لعرض هذه الكنوز المكتشفة قد يُحدث نقلة نوعية في اقتصاد المحافظة. مدير آثار دمياط، قطب فوزي، أشار إلى أن عرض المكتشفات داخل المحافظة سيعزز السياحة المحلية ويُسهم في تسليط الضوء على أهمية دمياط في السياق الحضاري المصري.
حماية التراث: التصدي للتعديات
لم يكن الحفاظ على هذه الكنوز الأثرية سهلاً. تمكنت منطقة آثار دمياط من إنهاء 40 حالة تعدٍ على المواقع الأثرية بالتعاون مع الأجهزة المعنية، مما يعكس التزامًا قويًا بحماية التراث الثقافي.
استمرار الحفريات: اكتشافات واعدة في الأفق
ما زالت أعمال الحفريات في “تل الدير” جارية، مع توقعات بالكشف عن المزيد من الكنوز الأثرية التي قد تعيد تشكيل فهمنا لتاريخ دمياط. تشير الاكتشافات الحديثة إلى استكمال التسلسل التاريخي لجبانة “تل الدير”، وتسليط الضوء على دور دمياط كمحور تجاري وثقافي عبر العصور.
“تل الدير”: قصة تستحق الاكتشاف
“تل الدير” ليس مجرد موقع أثري، بل هو شهادة حية على عبقرية المصريين القدماء وتفاعلهم مع الحضارات المتعاقبة. من خلال اكتشافاته الفريدة، يفتح لنا هذا الموقع نافذة على تاريخ مصر العريق، ليظل شاهدًا على أهمية دمياط كمدينة تجمع بين الماضي والحاضر والمستقبل.
تعليقات 0